تباينت آراء خبراء الاقتصاد حول مدى تمتع وكالات التصنيف الائتمانى بالحياد والمصداقية عند تصنيفها لاقتصاد دولة ما، إذ يرى البعض أن تلك الوكالات تعتمد فى تصنيفها على تقارير ومؤشرات تصدرها الدولة عن نفسها، أو يقوم بإعدادها فريق من الخبراء والمحللين التابعين لتلك الوكالات، ثم تٌرفع إلى لجان مختصة تكون هى المخولة بالتصنيف.
وأوضحوا لـ«المال» أن اتفاق وكالات «موديز، فيتش، وستاندرد آند بورز S&P» فى آن واحد على تخفيض تصنيف مصر الائتمانى أمر مستبعد.
فى المقابل، يرى فريق آخر أن هذه الوكالات تتحيز فى تصنيفها لصالح الدول الرأسمالية الكبرى التى تتبعها وتقوم بتصنيف اقتصاد دولة ما بما يخدم مصالحهم فيها.
وبين فبراير ومايو الماضيين، أعلنت وكالتا «موديز» و«فيتش» خفض تصنيف مصر الائتمانى درجة واحدة إلى «B2» و«B» على الترتيب، كما اتفقت الثلاث مؤسسات على تغيير النظرة المستقبلية للاقتصاد المحلى من «مستقرة» إلى «سلبية».
وأرجعت الوكالات خفض تصنيف مصر الائتمانى وتغيير النظرة المستقبلية إلى قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها المالية طويلة الأجل بالعملة الأجنبية، وارتفاع مخاطر التمويل الخارجى فى ظل احتياج البلاد إلى المزيد، مع صعوبة شروط الحصول عليه، وكذلك استمرار وجود السوق الموازية للدولار وما يثيره من تساؤلات حول مدى تطبيق سياسة سعر الصرف المرن.
عالية المهدى: تعتمد على المؤشرات المعلنة من قبل الحكومات نفسها
من جانبها، أوضحت الدكتورة عالية المهدى، عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الأسبق - جامعة القاهرة، أن وكالات التصنيف الائتمانى «موديز، فيتش، وستاندرد آند بورز S&P» تعتمد فى تصنيفها على مجموعة من البيانات والمؤشرات التى تتيحها الدولة نفسها محل التصنيف، مضيفة أن الوكالات أحيانا تلجأ إلى إجراء استطلاعات للرأى من قبل الشركات المستثمرة أو التى تفكر بجدية فى الدخول للاستثمار فى تلك الدولة.
وقالت إن وكالات التصنيف الائتمانى تميل إلى الموضوعية ولا نستطيع أن نعتبرها «متحيزة» لافتة إلى أن «فيتش وموديز وS&P» تبنى تحليلاتها وتقييمها لاقتصاد دولة ما بناء على الأرقام الاقتصادية التى تنشرها الدولة من خلال جهاتها الرسمية، وكذلك البيانات التى يوفرها البنك المركزى أو وزارة المالية أو التخطيط، والجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء.
وأشارت إلى أن وكالات التصنيف تأخذ التطورات السياسية فى الاعتبار، وتعتمد أحيانا على نتائج استطلاعات الرأى التى يوفرها البنك الدولى لمجتمع الأعمال الـ«Business survey».
وبالانتقال إلى الحديث عن مدى التأثير الذى يحدثه خفض التصنيف الائتمانى من الوكالات على مناخ الاستثمار فى الدولة، أضافت عالية المهدى قائلة: «له تأثير كبير على قرارات المستثمرين الأجانب، والذين يتخذون من تلك الوكالات مرجعية أساسية لهم قبل الدخول فى الاستثمار فى دولة ما، أما فيما يخص الاستثمار المحلى فينقسم إلى شقين، الأول: الاستثمار العام مثل القطاعات المملوكة للدولة، والثانى: الاستثمار الخاص الذى يقوم به رجال الأعمال والمستثمرون الوطنيون، فالتصنيف الائتمانى لتلك الوكالات يؤثر على الشق الثانى من الاستثمار المحلى، ويجعله يتراجع بعض الشئ».
وتابعت إن المستثمرين المحليين ينظرون إلى الاستثمار من منظور التكلفة مقابل العائد، ففى الفترة الأخيرة ارتفعت تكلفة الاستثمار بدافع اتباع البنك المركزى لسياسة التشديد النقدى ورفع أسعار الفائدة، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة الاستيراد المدفوع بخفض قيمة العملة المحلية مقابل الأجنبية.
وفى اجتماع البنك المركزى الأخير يوم 18 مايو الماضى، قررت لجنة السياسة النقدية تثبيت أسعار الفائدة عند مستوى %18.25 على الإيداع و%19.25 للإقراض، وسعر%18.75 العملية الرئيسية.
وذكرت «المهدى» أن تلك الفترة لابد أن تشهد محفزات للاستثمار الخاص وليس العام، مثل خفض الضرائب، وخفض معدلات الفائدة، موضحة أن سعر الفائدة المرتفع لا يزال يمثل عائقًا أمام المستثمرين.
وأوضحت أن أسعار الفائدة تمثل أهمية قصوى بالنسبة للاستثمار الخاص، ويُعتَبر غير مؤثر بالنسبة للادخار أو التضخم، مؤكدة أن الفترة الأخيرة شهدت ارتفاعات كبيرة فى معدلات التضخم المحلية على الرغم من اتباع البنك المركزى لسياسة نقدية انكماشية.
وأشارت إلى أن معدلات التضخم المرتفعة ترجع إلى الإنفاق الحكومى الكبير، والذى لا يقابله إنتاج بالقدر الكافى، مما يدفع إلى زيادة الضغط على السلع من قبل المستهلكين، وبالتالى ارتفاع الأسعار، لافتة إلى أهمية تثبيت أسعار الطاقة للحفاظ على تنافسية المنتجات الصناعية فى الدولة.
نافع: تواطؤ «فيتش» و «موديز» و «ستاندرد آند بورز» فى آن واحد مستبعد
فى السياق ذاته، قال مدحت نافع الخبير الاقتصادى وأستاذ التمويل، إن وكالات التصنيف الائتمانى لديها محللون متخصصون لدراسة المناطق والدول محل التصنيف، مضيفا أن هؤلاء المحللين يقومون بعمل دراسات وتقارير، ثم تُرفع إلى اللجان المخولة لفحصها واتخاذ القرارات.
وأوضح أن طريقة إعداد التقارير تستند إلى دراسات تقدم خلفية عن الدول محل التصنيف، بالإضافة إلى تنبؤات بمدى قدرة الدولة على سداد مديونياتها، من خلال تتبع متحصلاتها وإيراداتها من الدولار ومصروفاتها المتوقعة، وكذلك كل الأمور المتعلقة بميزان مدفوعاتها والتزاماتها الآنية والمستقبلية، ثم بعد ذلك يوضع التحليل.
وأكمل أن مصداقية المؤسسات الائتمانية تكون على المحك إذا انحازت انحيازا تاما، مستبعدا تواطؤ الثلاث مؤسسات الكبرى على تخفيض تصنيف دولة بعينها فى نفس التوقيت، فهو أمر بعيد الاحتمال على حد وصفه.
وتابع إنه على الرغم من ذلك لا تخلو تلك التقارير من شبهات التحيز بما يخدم مصالح تلك المؤسسات، مشيرا إلى أن وكالات التصنيف الائتمانى لها عملاء من كبار المستثمرين فى بنوك استثمار ضخمة، الذين يضخون استثماراتهم فى أدوات دين الدول الناشئة لمنحها عوائد مرتفعة، نتيجة لزيادة مخاطر الاستثمار.
وأكد على عدم خلو أزمة مالية سابقة من اتهام مباشر أو غير مباشر لوكالات التصنيف الائتمانى، وتساءل قائلا: «هل هذا يجعلنا مطمئنين باعتبارنا نتعرض لمظلمة ما وأن هذه التقارير يحوم حولها شبهات الفساد، بالطبع لا، لأنه حتى وإن كانت التقارير المصدرة فاسدة بشكل كامل أو جزئى أو غير فاسدة، فالنتيجة واحدة، وهى أن مؤسسات التمويل الدولية والمستثمرين والدائنين يثقون فى هذه التقارير، مقارنة مع التقارير الحكومية المصدرة من الدولة نفسها لما يشوبها من احتمالات التحيز».
وقال «نافع» إن المحصلة النهائية لخفض وكالات التصنيف الائتمانى لتصنيف دولة ما، أنه يجعلها أكثر هشاشة فيما يخص الدين وخدمته، ناهيك عن رفع تكلفته، فى ظل حاجة الدولة المخفض تصنيفها إلى استمرار الاستدانة فى الأجل القصير تلبية لاحتياجات سداد الديون القائمة فى ميعاد استحقاقها، وتلافى مخاطر التعثر.
وأكد أن وكالات التصنيف لها منهجية خاصة بها، بعضها معلن عنه، و الآخر غير معلن تفاصيله بشكل واضح.
أما حسن الصادى، أستاذ الاستثمار والتمويل فيرى أن وكالات التصنيف الائتمانى، سواء "فيتش» أو «موديز» أو» ستاندرد آند بورز» وكذلك المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، لا تقوم على الحياد، موضحا أن تلك الوكالات تمتلكها وتديرها الدول العظمى الرأسمالية.
وأضاف أن توجهات وكالات التصنيف الائتمانى تخضع إلى مصالح الدول الغربية، لافتا إلى أنهم لا يصنفون الاقتصاد فى مصر بما يمثل الوضع القائم فيها، وإنما بما يمثل مصالح المؤسسات المالية الضخمة بها.
وقال إن وكالات التصنيف الائتمانى الدولية لا تخضع للتقييم أو المراجعة من قبل جهة رقابية أعلى منها، فهى محمية من الدول الكبرى، مضيفا أن تصنيفها الائتمانى إن خضع للتفنيد، وذلك للتحقق من عدد المرات التى كان تصنيفها سليما وعدد المرات التى صنفت فيها مناخ الاستثمار فى دولة ما بشكل غير دقيق، سيتضح الأمر.
ودلل على وجهة نظره بعدم خفض الوكالات لتصنيف الولايات المتحدة الأمريكية تبعا لعدم قدرتها على الوفاء بالديون، إلى أن اتخذ الكونجرس قرارا بالموافقة على رفع سقف الدين بالولايات المتحدة.
ووافق الكونجرس الأمريكى يوم 1 يونيو الحالى على رفع سقف الدين الأمريكى، والذى يجنب الولايات المتحدة خطر التعثر عن السداد.
وتوقع أن تقوم وكالات التصنيف الائتمانى الفترة المقبلة بخفض تصنيف مصر إلى مستوى «C» وتابع قائلا: «تقييمهم للوضع الاستثمارى فى مصر مجحف إلى حد كبير، حيث إن أى خبير استثمارى يعلم جيدا أن الظروف الاقتصادية الصعبة فى دولة ما تولد فرص استثمار ضخمة، بل أن تلك الظروف تكون هى الفرصة فى حد ذاتها».
وتابع إن ذلك على النقيض من الاستثمار فى الاقتصادات المتقدمة التى لا توجد بها مشكلات، فالمنافسة تكون شرسة، أما السوق المصرية فيوجد بها عقبات تتطلب حلولا اقتصادية وفرص استثمار لا نهائية فى ظل عدم وجود منافسة قوية فى بعض الأسواق، مضيفا أن الاقتصاد المصرى واعد بمشكلاته، وليس العكس، مثل الوضع فى أسواق الدول المتقدمة التى وصلت إلى مرحلة التشبع.
وبالتطرق إلى الحديث عن حلول للوضع الاستثمارى فى مصر فى الوقت الحالى، أوضح أن مصر بها 5 أسعار للصرف، سعر الصرف الرسمى المعلن وسعر تدبير العملة بالبنك وسعر العقود المستقبلية، بالإضافة إلى سعرين للسوق الموازية داخل مصر وخارجها، مشيرا إلى أن المستثمر الأجنبى لكى يدخل السوق لابد وأن يكون على دراية جيدة بكيفية خروجه، وكذلك وضع سعر الصرف المستقبلى.
وتابع إن المستثمر الأجنبى لم يدخل السوق إلا إذا استشعر حدوث استقرار أو خفض لأسعار الصرف، ومن ثم فالمسئولية الأكبر لهذه المعضلة تقع على عاتق السياسة النقدية والمالية معا، للتنسيق ولوضع حلول فعَّالة لجذب الاستثمار.
وأكد «الصادى» أن المشكلات الاقتصادية فى أى دولة لا يكمن حلها فى السياسة النقدية وحدها، فالأخيرة هى أداة من أدوات الدولة وليست محركا لاقتصادها على حد وصفه، كما أنها تُسخدم لتحقيق أهداف السياسة المالية، والتى يُبنى عليها اقتصاد الدول من الأساس.
وأكمل أن الوضع الاقتصادى فى مصر ناتج عن أزمة فى جانب العرض الكلى، وبالتالى فالحل يكمن فى زيادة المعروض من السلع والخدمات، وليس خفض المعروض من النقود.
وفى فبراير 2022 اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، والتى تسببت فى أزمة اقتصادية طالت معظم بلدان العالم، من ضمنها مصر، فانخفض العرض الكلى من السلع، مما تسبب فى زيادة الأسعار وارتفاع التضخم على مستوى العالم، وخرجت من مصر أموال أجنبية تٌقدر بنحو 22 مليار دولار على إثر رفع الفيدرالى الأمريكى لأسعار الفائدة واتجاه الاستثمارات فى أدوات الدين المحلي- الأموال الساخنة - من مصر إلى الأسواق الأكثر استقرارا، وهو ما يفسر إطلاق بعض الاقتصاديين على الوضع الاقتصادى المحلى بالتضخم المستورد أو الركود التضخمى، أو النقص فى جانب العرض الكلى.
