محطات متتابعة من الأزمات العالمية التى أرهقت القطاع الصناعى وألقت بظلالها السلبية على هذا القطاع الحيوى على مر عقدين من الزمان، وساهمت فى معاناته واستمرار بعض المشاكل والتحديات الداخلية الأزلية، والمتمثل أبرزها فى صعوبة إصدار التراخيص والسجلات الصناعية والروتين ونقص الأراضى اللازمة لتلبية توسعات واحتياجات المستثمرين الصناعيين.
وكانت أزمتا كورونا والحرب الروسية الأوكرانية الأخيرتين أشد ألما بالنسبة للقطاع الصناعى والتصديرى على السواء، ما دفع القيادة السياسية والحكومة إلى الانتباه إلى ضرورة تدخل عاجل للعمل على مساندة القطاع من أجل الحفاظ عليه من ناحية ثم بدء النمو فى المرحلة المقبلة.
ولعل أبرز ما يتم الرهان عليه خلال المرحلة الراهنة لاقتناص الفرص الحقيقية فى القطاع الصناعى هو إحداث ثورة تشريعية فيما يخص ملف التراخيص والأراضى الصناعية والقضاء على البيروقراطية عبر العديد من الإجراءات والقرارات، رغم تأخرها، فضلًا عن إطلاق مبادرات رئاسية مثل مبادرة “ابدأ” ومنح الرخصة الذهبية للمستثمرين خلال 3 شهور، فضلًا عن تركيز وسعى الحكومة لتعميق وتوطين الصناعة المحلية باعتبارها أدوات مهمة لتلبية الاحتياجات المحلية من السلع والمنتجات، وكذلك التوسع فى التصدير وجلب العملات الأجنبية.
وقال محمد المهندس، رئيس غرفة الصناعات الهندسية باتحاد الصناعات المصرية، إن أزمات القطاع الصناعى ومطالبه مستمرة معه منذ ما يقارب العقدين ونصف العقد ودائمًا ما تعلن الحكومة أنها تسعى لحلها ولكن تصدم بالبيروقراطية والفساد فى بعض الإدارات الحكومية، وعدم قدرتهم على تطبيق القوانين واللوائح بأفضل شكل ممكن، بالإضافة إلى صعوبة مساهمته فى تشجيع وتسهيل مهمة المستثمر.
وأضاف المهندس أنه دائمًا ما يشتكى المصنعون والمستثمرون من أزمة الحصول على التراخيص وتقوم الحكومة مرارًا وتكرارًا بالإعلان عن إصدار التراخيص فى وقت زمنى قصير والتسهيل على المستثمرين، ولكن ذلك يقابله عدم معرفة البعض منهم بالقوانين والتدريب عليها، فضلًا عن تعطيل البعض منهم لتنفيذ تلك القوانين والتسهيلات ما ساعد على هروب البعض عن الاستثمار نتيجة الاشتراطات الصعبة أو بعض الموظفين العاملين فى الجهات الحكومية.
وقامت الحكومة بإصدار قوانين لإصدار الرخص بالإخطار والتراخيص خلال 7 أيام، ولكن كان اشتراط الحصول على تصريح الدفاع المدنى والذى كان يعد من المستحيلات عبر العقدين الماضيين، إضافة إلى وجود بعض الإجراءات، وهى الانتهاء من تدشين المصانع فى توقيتات وإلا سيتم سحب الأراضي، إضافة إلى صعوبة ترفيق الأراضى الصناعية.
وأشار المهندس أيضًا إلى أن أحد أكبر عوائق الاستثمار هو معاناة القطاع الصناعى من ندرة الأراضى وارتفاع تكاليف ترفيقها، إضافة إلى سعر متر الأراضى الصناعية، وسط مطالب مستمرة من المستثمرين بضرورة وضع عدد من الحوافز والتشريعات لتخصيص الأراضى وتنويع طرق تخصيصها ما بين حق الانتفاع والإيجار والبيع بما يتناسب مع المستثمر مع ضرورة وضع إجراءات لسرعة التخصيص والعمل على إصدار التراخيص بشكل فورى للصناعات، خاصة فى ظل صعوبة الحصول على تمويلات حال عدم وجود تراخيص وغيرها.
ورغم تنوع القطاعات من صناعات غذائية ونسيجية ومواد بناء وكيماويات وهندسية، فإن المشاكل نفسها يعانى منها الجميع، خاصة أن الحكومات المتعاقبة لم تفِ بوعودها حتى الآن فى إدخال تعديلات على مناخ الاستثمار، حيث لم يُطبَّق بعدُ نظام الشباك الواحد للمستثمرين بشكل صحيح نتيجة لتنازع الجهات والبيروقراطية، بما يخدم المشروعات الصناعية القائمة الراغبة فى التوسع.
وطالب المهندس الحكومة بضرورة أن تراعى الظروف الاقتصادية الحالية التى يعانى منها الجميع، وعلى رأسها القطاع الصناعي، وأن يتم العمل على تخفيف الأعباء على المستثمر ما يساهم فى زيادة الناتج المحلي، والعمل على تطبيق قوانين تفضيل المنتج المحلى فى المناقصات، ما يتيح الفرصة الأكبر لنمو التصنيع المحلى بدلًا من الاستيراد، ما يساهم فى توفير الدولارات الموجهة للاستيراد من الخارج.
وتأتى تلك الأزمات ذلك بجانب غموض بعض مواد قانون التراخيص، مما يؤدى إلى اختلاف التفسيرات وعدم توازن اللجان وضياع حقوق المستثمر، وتعدد الجهات المنوط بها وضع الضوابط الفنية والمالية للتقدم بطلب حصول على أرض، والتعامل مع الأرض كسلعة، بجانب الفجوة بين القانون واللائحة التنفيذية، ووجود فجوة بين القانون والإجراءات المعلنة وأرض الواقع، سواء ما يتعلق بالتراخيص أو عدم توافر الأراضى، وصعوبة تخصيص الأراضى الصناعية من خلال الخريطة الاستثمارية.
ومن خلال مقارنة وضع مصر مع بعض التجارب العالمية فيما يخص التراخيص وتخصيص الأراضى وإدارة المناطق الصناعية، أظهرت التقارير والدراسات إلى أنه بشكل عام فى التجارب الدولية لا توجد بالضرورة جهة حكومية مركزية للتنمية الصناعة، فيعامل النشاط الصناعى مثل أى نشاط استثمارى وتستكمل إجراءاته المحدودة من خلال المحليات بسهولة ويسر، كما أن هناك اتفاقًا بين تجارب الدول على تعزيز الصناعة ووضعها كأولوية أولى ولا تتربح الدول من أى إجراءات تخص الصناعة وتكتفى بالعائد الضريبى الذى يدفعه المصنعون من أرباحهم.
المناطق الصناعية
وعند النظر إلى عدد المناطق الصناعية فى مصر نجد أنها بلغت نحو 90 منطقة عام 2004-2005، ثم قفزت إلى 113 منطقة بحلول عام 2010، ثم لم يرتفع عددها سوى منطقة واحدة فقط بحلول عام 2015-2016 ومازالت عددها كما هو حتى الآن.
ولكن ارتفع عدد المجمعات الصناعية، إذ تقوم الحكومة بتنفيذ عدد من المجمعات الصناعية بشكل مستمر، إضافة إلى طرحها عددًا من المصانع بنظام مصنعك بالترخيص بمساحات مختلفة لعدد من الأنشطة الصناعية للمساهمة فى زيادة النشاط الصناعي.
ونتيجة للإجراءات الحكومية والتشريعات التى تسعى الحكومة لتعديلها بشكل مستمر بما يتوافق مع مصلحة القطاع الصناعى استطاعت الصناعة المصرية تحقيق عدد من المؤشرات الإيجابية التى وضعت قطاع الصناعة فى مقدمة القطاعات الاقتصادية، إذ يُسهم بنسبة %11.7 فى الناتج المحلى الإجمالي، ويستوعب حوالى %28.2 من إجمالى العمالة المصرية، كما بلغت استثماراته حوالى 49 مليار جنيه خلال العام المالى (2020/2021)، وهو ما يمثل حوالى %7-6 من إجمالى الاستثمارات العامة.
كما قفز قيمة الناتج الصناعى إلى حوالى 982 مليار جنيه فى عام 2021 مقارنة بنحو 570.6 مليار جنيه عام 2017/2016، بعد أن سجل 357.3 مليار جنيه عام 2014/2013، إضافة إلى تمتع مصر بقاعدة صناعية متنوعة تشمل حوالى 150 منطقة ومجمعا موزعة على جميع محافظات مصر، تغطى كل أنحاء الدولة تقريبًا، كما أن %15 من إجمالى عدد المناطق الصناعية يقع بالقاهرة الكبرى، إذ يوجد بها 18 منطقة صناعية، وتتبوأ الإسكندرية المكانة الثانية من خلال عدد المناطق الصناعية فتحتوى على %7 أى 9 مناطق صناعية.
وقفز حجم الاستثمارات فى القطاع الصناعى حوالى 62.5 مليار جنيه خلال 2021-2022، بما يوفر 180 ألف فرصة عمل، وتقسم الفرص كالتالي: 1625 فرصة استثمارية فى الصناعات الهندسية، و861 فرصة استثمارية فى الصناعات الكيماوية، و649 فرصة استثمارية فى الصناعات الغذائية، و605 فرصة استثمارية فى الصناعات النسيجية، و395 فرصة استثمارية فى الصناعات الدوائية، و122 فرصة استثمارية فى الصناعات المعدنية، و56 فرصة استثمارية فى الصناعات الجلدية.
من جانبه، قال المهندس وليد جمال الدين، رئيس المجلس التصديرى لمواد البناء، إن القطاع الصناعى يحتاج لمبادرات تمويلية ضخمة بدون فوائد أو بفائدة منخفضة للغاية بالإضافة إلى خفض الضرائب والرسوم الخاصة بالصناعة للمساهمة فى تعافى القطاع التصنيعى المصرى والتصديرى كذلك لاسيما وأنه أحد أكبر الحلول للخروج من الأزمات الحالية.
وأشار جمال الدين إلى أنه على مدار عقدين من الزمان يشتكى المستثمرون من المغالاة فى تسعير الأراضى الصناعية، إضافة إلى حدوث إغراق من بعض الصناعات الأجنبية، مما يهدد الصناعة الوطنية بالإغلاق وانتشار الأيدى العاملة الأجنبية، خاصة الصينية والتأثير على كثير من الصناعات فى مصر ومنافسة التجار المصريين، وكذلك عدم صلاحية أرض صناعية خصصت لإحدى الشركات الاستثمارية.
يذكر أنه مع حلول عام 2011 وقيام ثورة 25 يناير حدثت مشاكل صناعية ضخمة على رأسها إغلاق الآلاف من المصانع، وظلت تلك الأزمة عالقة بين الحكومات حتى يومنا هذا على مدار 10 سنوات، ومازالت الأزمة الكبيرة دون وجود حل جذرى لها، خاصة أن المصانع المتعثرة والمتعطلة انتشرت بصورة كبيرة فى جميع محافظات الجمهورية وليس أكتوبر أو المناطق الصناعية فقط، مما يؤثر بالسلب على الاقتصاد المصرى والإنتاج، خاصة أن تلك المصانع تضم مئات الآلاف من العمال.
وأصدر البنك المركزى عددًا من المبادرات على مدار السنوات الماضية لتمويل المصانع المغلقة لإنقاذها ولم يستفد منها سوى عدد قليل جدا من تلك المصانع، وتوجد أرقام عديدة متضاربة حول أعداد المصانع التى أغلقت أو متعثرة ولا تعمل ولكن الرقم التقريبى والأقرب للصحيح هو ٥ آلاف، وهذا الرقم كبير للغاية فى ظل الأزمة الصناعية والاقتصادية التى نمر بها فى الفترة الأخيرة.
وأوضح جمال الدين أنه رغم توجيهات الحكومات باتخاذ كل الإجراءات لدعم الصناعة المصرية ودعم تلك المصانع وإعادة تشغيلها مرة أخرى واستعادة نشاطهم لزيادة الإنتاج وتقليل نسب البطالة وزيادة الصادرات وتقليل الواردات، إلا أنه لا يوجد أى جديد فى تلك الأزمة فى الوقت الحالي، إضافة إلى أن البعض منهم تخارج من السوق أو الصناعة وتحول البعض إلى التجارة.
وتأثرت القطاعات الصناعية بالأزمات المالية العالمية وأبرزها الأزمة المالية 2008 والتى تضرر منها أغلب دول العالم، إضافة إلى حدوث ثورتى 2011 و2013 مرورا بجائحة كورونا والتى بدأت فى 2020 والتى تسببت فى وقف سلاسل الإمداد العالمية وصعوبة استيراد مستلزمات الإنتاج، وأخيرًا الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022 ما كان لها تأثيرها الكبير على عدد من المصانع والشركات على خلفية صعود كبير فى أسعار مستلزمات الإنتاج، وتوقف البعض منها نتيجة لتلك الحرب أو العقوبات على بعض الدول.
وأطلق الرئيس عبدالفتاح السيسى والحكومة عددًا من المبادرات لإنقاذ الصناعة المصرية، وعلى رأسها مبادرة الرخصة الذهبية خلال عام 2022، والتى تتضمن الحصول على رخصة واحدة تُمنح للمشروعات الجديدة بهدف تسريع بدء النشاط الإنتاجى والاستثمارى، ولا تحتاج لموافقات من عدد من الجهات مثل الرخصة التقليدية، إضافة إلى مبادرة ابدأ خلال 2021 لدعم وتوطين الصناعات الوطنية للاعتماد على المنتج المحلى وتقليل الواردات، من خلال تعزيز دور القطاع الخاص الوطنى فى توطين العديد من الصناعات الكبرى والمتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر فى مصر.
وتساهم مبادرة ابدأ فى تقديم عدد من الحوافز فى صورة أراض بحق الانتفاع وإعفاء من الضرائب لمدة خمس سنوات، إضافة إلى تقديم أوجه الدعم اللازم لتقنين الأوضاع للمخالفين وتقديم الدعم الفنى والمادى اللازم للمتعثرين، وأخيرًا مبادرة تمويل المشروعات الصناعية والزراعية باستثمارات تصل إلى 150 مليار جنيه عبر خفض الفائدة على تلك الأنشطة.
كما أصدر رئيس مجلس الوزراء منتصف 2022 قرارًا بتخصيص الأراضى الصناعية على مستوى الجمهورية بنظام حق الانتفاع بسعر التكلفة، ومنحهم جميع الصلاحيات اللازمة لتيسير عملية التخصيص مع ضمان جدية المشروعات التى ستقام على هذه الأراضي، وستعقد اللجنة اجتماعاتها بصفة دورية كل أسبوعين بهدف البت فى كل الطلبات المقدمة من المستثمرين.
وأخيرًا طالب جمال الدين الحكومة بضرورة مساعدة المصانع المصرية للجوء للتصدير بشكل أكبر حتى تستطيع كل شركة فى تدبير مصادر عملة أجنبية يمكن من خلالها القيام بعمليات استيراد للمواد الخام الصالحة للتصنيع، بالإضافة إلى ضرورة زيادة برامج رد أعباء التصديرية لصالح المصدرين المصريين.
إنشاء المجمعات لمواجهة مشاكل التراخيص
«ابدأ» و«الرخصة الذهبية» خطوتان مهمتان
«المناطق» ارتفعت من 90 فى 2004 إلى 113 حاليا
