البنوك المركزية تستحث الخطى لتأمين أموال مودعيها

انفرط عقد القطاع المصرفى الأمريكى منذ مارس الماضى، فلم تقف الأزمة عند تعثر بنك سيلكون فالى، التى تعد أكبر عملية إفلاس مصرفى منذ إغلاق بنك

Ad

انفرط عقد القطاع المصرفى الأمريكى منذ مارس الماضى، فلم تقف الأزمة عند تعثر بنك سيلكون فالى، التى تعد أكبر عملية إفلاس مصرفى منذ إغلاق بنك “واشنطن ميوتشوال” فى العام 2008، وتعرضه لموجات سحب سيولة هائلة، وإنما تبعه فى ذلك بنكا سيجنتشر وسيلفرجيت؛ اللذان واجها حالات واسعة من سحب الودائع، وهو ما دفع السلطات الفيدرالية إلى إغلاقهما.

ازدادت الأمور سوءًا بعدما واصل سهم بنك فيرست ريبابليك، الخميس 27 أبريل الماضى، خسائره للجلسة الرابعة على التوالى، وفقد نحوًا من %45 من قيمته، الجمعة 28 أبريل الماضى، قبل أن يعلن جى بى مورجان الاستحواذ على غالبية أصول البنك المتعثر، وتعهد مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية المشاركة فى تحمل الخسائر.

أصاب بنك PacWest ما أصاب نظراءه الآخرين؛ إذ فقدت أسهمه، منذ مارس الماضى، نحو %90 من قيمتها، وفى تعاملات الأربعاء 3 مايو الجارى، هوى السهم بأكثر من %56 فى تداولات ما بعد الإغلاق فى بورصة وول ستريت.

دويّ أزمات المصارف الأمريكية سُمع صداها على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي؛ إذ تكبدت المصارف الآسيوية الأوروبية فى مارس الماضى جملة خسائر واسعة.

ففى باريس، خسر سوسييتيه جنرال %4.49 وبى إن بى باريبا %3.82 وكريدى أجريكول %2.48، وفى أماكن أخرى من أوروبا، خسر دويتشه بنك الألمانى %7.35 وباركليز البريطانى %4.09 ويو بى إس السويسرى %4.53.

وكاد بنك كريدى سويس أن يسقط فى هوة البنوك المتعثرة؛ إذ تهاوى سهمه خلال مارس الماضى، لولا مدّ البنك المركزى السويسرى طوق نجاة للبنك المتعثر عبر وديعة مساندة بقيمة 54 مليار دولار.

وفى وقت لاحق أعلن عملاق القطاع المصرفى السويسرى “يو بى إس” استحواذه على بنك كريدى سويس مقابل 3.3 مليار دولار.

تأثير الدومينو وتهاوى البنوك

وعلى إثر هذه الأزمات المتوالية التى وقعت مصارف أمريكية وأوروبية تحت نيّرها، وتلك التبدلات الدراماتيكية التى عصفت بالقطاع المصرفى فى شرق الأطلسى وغربه، أعرب عدد وافر من الاقتصاديين والمصرفيين فى مناطق متفرقة من العالم عن تخوفهم من تمدد الأزمة.

فها هو جيمى ديمون، الرئيس التنفيذى لبنك جى بى مورجان، قد قال، مؤخرًا، إن «الأزمة المصرفية لم تنته بعد، وستتسبب فى تداعيات لسنوات قادمة».

والأخطر من هذا أن الرئيس الأمريكى جون بايدن نفسه قد قال جازمًا إن أزمة البنوك الأمريكية «لم تنته بعد».

صندوق النقد الدولى من جهته أعرب عن قلقه من الاضطرابات التى شهدتها المصارف الأمريكية مؤخرًا؛ إذ قال بيير أوليفييه جورينشا كبير الخبراء الاقتصاديين فيصندوق النقد الدوليإن «الصندوق لا يزال قلقًا من الاضطرابات التى شهدها القطاع المصرفى فى الآونة الأخيرة على الرغم من تحركات السلطات الأمريكية والسويسرية للتعامل مع البنوك المتعثرة التابعة لها».

والأسوأ من هذا، تأكيد «جوريشنشا» أن «القصة لم تنته بعد»، معتبرًا أن بنوك الاتحاد الأوروبى غير محصنة من المشكلات طالما أن التكتل لم يمض قدمًا فى استكمال الآليات التى تجرى مناقشتها منذ فترة طويلة للتعامل مع البنوك المتعثرة.

ماذا عن البنوك المحلية؟

عند تهاوى بنك سيلكون فالى أكد لفيف من الخبراء الذى تحدثت إليهم «المال» أنه لا خوف على البنوك المحلية من هذا السقوط المصرفى، مرجعين ذلك إلى كون هذا البنك متوسط الحجم من جهة- يحتل البنك المرتبة السادسة عشرة من بين البنوك الأمريكية- ناهيك عن كونه بنك متخصص فى تمويل نوعية معينة من الشركات وهى شركات التكنولوجيا المالية.

فضلًا عن كون الاقتصاد المصرى، حسب هؤلاء الخبراء، غير متورط فى مجريات الاقتصاد العالمى، لكننا عدنا الآن لسبر أغوار المسألة من جديد، لا لنسأل عن احتمالية تأثر البنوك المصرية بموجات التهاوى التى تعانى منها البنوك الأمريكية والأوروبية، وإنما لنعرف ماهية الإجراءات الوقائية التى يتخذها البنك المركزى المصرى لحماية المصارف العاملة فى السوق المحلية.

البنك المركزى شديد التحوط

طارق متولى الخبير المصرفى يرى أن البنك المركزى المصرى شديد التحوط فيما يتعلق بالتعامل مع الأزمات المحتمل وقوعها فى المستقبل، لافتًا إلى أن «المركزى» شديد الرقابة كذلك، بل وقريب جدًّا من كافة البنوك العاملة فى السوق المحلية المصرية بما يمكّنه من ضمان وضعها على الطريق الصحيح، وإبعادها عن كافة المخاطر المحتملة.

وأضاف أن البنك المركزى المصرى عمل كذلك على إصدار مجموعة واسعة من القوانين والتشريعات التى تضمن عدم تعرض البنوك لمخاطر أو أزمات مثل التعثر أو الإفلاس وخلافه، موضحًا أن هذه التشريعات تقضي- على سبيل المثال لا الحصر- بتنويع الدول التى يتم إيداع أموال فى بنوكها، بمعنى أنه لا يتم تكديس ودائع بنك من البنوك المحلية لدى أحد البنوك الخارجية.

وتابع أن تعليمات البنك المركزى لا تقتصر على تقييد التعامل مع الدول الخارجية- التى يتم إيداع الأموال فى مصارفها- وإنما تنص أيضًا على تنويع البنوك التى يتم إيداع الأموال فيها.

وعن تركيز المحافظ الاستثمارية على أدوات الدين المحلية، ومدى تمثيل ذلك مخاطر على القطاع المصرفى، أكد طارق متولى الخبير المصرفى أن الإفلاس أو التعثر يأتى من الدين الخارجى وليس الدين المحلى، ومن ثم فإن تكريس استثمارات البنوك المحلية فى سندات وأذون الخزانة لا يمثل خطورة.

وأفاد أن البنوك لم تتراجع عن دورها فى منح الائتمان متى ما كان العميل مؤهلًا، وقادرًا على تحمل التكلفة ومستعدًا للنهوض بأعبائه المالية، وبالتالى فإن البنوك وإن كانت تكثف من استثماراتها فى أدوات الدين المحلية فإن ذلك لم يصرفها عن القيام بدورها الإقراضى، لا سيما وأن الفوائض النقدية ومعدلات السيولة لديها مرتفعة جدًا.

وفيما يتعلق بتعثر بعض البنوك الخارجية مثل سيلكون فالى وتهاوى أسهمها، فاعتبر طارق فهمى الخبير المصرفى أن المشكلة الأساسية التى أدت هذه الأزمات المتوالية كانت فى ضعف الرقابة، وعدم قيام الجهات الرقابية بأدوارها المنوطة بها على أفضل نحو ممكن.

وهو ذات الرأى الذى ذهب إليه شريف سامى عضو مجلس إدارة البنك التجارى، قائلًا إن «انهيار سيلكون فالى تعبير واضح عن فشل الرقيب المالى هناك».

الرقابة على السيولة

فى سياق متصل، تؤكد سهر الدماطى، الخبيرة المصرفية وعضو مجلس إدارة بنك التعمير والإسكان، أن البنك المركزى يتعامل بحذر شديد ومنهجية واضحة عندما يتعلق الأمر برفع الفائدة أو انتهاج سياسات التشديد النقدى.

وأضافت أن البنك المركزى يعمل كذلك على مراجعة السيولة الموجودة فى البنوك بشكل دورى، قد يكون أسبوعيًّا، مؤكدة أن «المركزى» يعمل أيضًا وفقًا لمجموعة من النظم والسياسات المتفقة مع مقررات بازل.

تحليل الأزمات فرادى

هانى أبو الفتوح الخبير المصرفى والرئيس التنفيذى لشركة الراية للاستشارات، يذهب إلى أن الأزمات يجب أن تُحلل فرادى؛ فأزمات المصارف الأمريكية على سبيل المثال نجمت عن الرفع المتتالى لمعدلات الفائدة من قبل الفيدرالى الأمريكى.

وأفاد أن سيلكون فالى تعرض لهذه الأزمة لكونه لجأ لضغط سحب سيولة متتالى من قبل العملاء بعد شيوع حالة من الذعر هناك، ما دفع البنك إلى بيع بعض من أصوله بالخسارة لتغطية طلبات سحب الودائع الكثيفة.

ولفت الخبير المصرفى إلى أن سياسة التشديد النقدى ورفع معدلات الفائدة يؤدي- كنوع من الآثار الجانبية أو التبعات السلبية- إلى رفع تكلفة الإقراض، ومن ثم إلى إحداث حالة من التعثر لدى بعض الشركات والقطاعات، معتبرًا القطاع العقارى مثال بارز على هذه القطاعات التى تعانى من الآثار السلبية واسعة النطاق لرفع الفائدة.

وعلى صعيد الحلول الوقائية الرامية إلى التغلب على المخاطر المحتملة لحدوث أزمات فى القطاع المصرفى أو تمدد أزمة البنوك الأمريكية إلى نظيرتها المحلية، رأى هانى أبو الفتوح الخبير المصرفى والرئيس التنفيذى لشركة الراية للاستشارات، أن هناك حاجة ماسة لإحداث نوع من التنسيق الشديد بين السياستين المالية والنقدية؛ من أجل إدارة الموقف الحالى، وصياغة سياسة متوازنة تأخذ فى الاعتبار متطلبات السياستين (المالية والنقدية).

نزع مركزية الدولار

لكن هانى حافظ، الخبير المصرفى، يذهب فى مسار آخر، إذ يشير إلى أن عددًا من البنوك المركزية فى العالم بدأت تخفض احتياطياتها من الدولار؛ رغبة فى نزع هيمنة الاقتصاد الأمريكى وعدم الاعتماد الكلى عليه.

وأشار تقرير «مستقبل النظام النقدى» الصادر عن معهد الأبحاث التابع لبنك «كريدى سويس»، إلى أن الدولار فى السبعينيات كان يمثل %80 من الاحتياطيات العالمية، بينما وصل فى 2022 إلى مستوى %58.8 فقط، وهو أدنى مستوى فى 20 عامًا.

وأضاف «حافظ» أن المصارف الأمريكية التى مُنيت بخسائر مطلع هذا العام إنما نتج عن ذلك عن عدم قدرتها على إدارة المخاطر بشكل جيد، كما أن إفراطها فى الاستثمار فى السندات طويلة الأجل أدى إلى خلق مشكلة فى السيولة لديها، لا سيما بعد ارتفاع الفائدة، وازدياد معدلات سحب السيولة.

وعلى صعيد محلى، أكد الخبير المصرفى أن البنك المركزى المصرى يتوسع جدًّا فى تطبيق مقررات بازل، سواءً فيما يتعلق بنسب التوظيف، السيولة، بالإضافة إلى الاستثمارات طويلة الأجل، مشيرًا إلى أن إدارة السياسة النقدية تسير بشكل جيد.