فى خضم أكبر أزمة ديون عالمية منذ ثمانينيات القرن الماضى (على أساس حصة سكان العالم المتأثرين)، اضطرت الدول النامية المأزومة للجوء إلى صندوق النقد الدولى كملاذ أخير لمساعدتها على الهروب من شبح التعثر، لكن الصندوق بدا أقل مرونة وأكثر تشددا فى فرض شروطه القاسية أحيانا والجريئة أحيانا أخرى.
رغم الموقف شديد الحرج للعديد من الدول، والحاجة العاجلة للتمويل إما لمنع التخلف عن سداد الديون أو تأمين بعض المال لتغطية استيراد السلع الأساسية، تشبث الصندوق بتنفيذ شروطه بجدية، مديرا ظهره لأى محاولة إصلاح «تجميلية».
مع باكستان، أصر الصندوق على زيادة الضرائب وتحرير سعر الصرف، وفى تونس تشدد فى طلبات إلغاء الدعم، ومع سريلانكا فرض تقليص حجم الجيش بل ودفعها لإرغام الدائنين الآخرين كالصين على هيكلة ديونهم.
وفقا للإيكونوميست، كان هناك 7 دول على الأقل - من بين 21 دولة مأزومة ـ جاهزة منذ أكثر من عام لإبرام صفقة اقتراض من صندوق النقد الدولى، لكنها وجدت نفسها مضطرة لتنفيذ الإصلاحات دون أن تحصل على دولار واحد.
ويأتى هذ التشدد من قبل الصندوق رغم التنامى الهائل فى قدراته التمويلية، على نحو لم ينعكس مطلقا فى دفتر قروضه الذى نما بمقدار 51 مليار دولار فقط منذ انتشار جائحة كوفيد -19.
تذهب التفسيرات حول هذا التشدد، إلى شعور الصندوق بالسأم من الاستماع إلى نفس الأعذار فى كل مرة حول صعوبة تنفيذ بعض الإجراءات، خاصة مع الدول التى خاضت برامج إنقاذ طويلة سابقة، فضلا عن عدم منطقية ضخ المال فى الدول المأزومة رغم بقاء نفس نقاط الخلل التى قادتها إلى الأزمة وبشكل يعنى عمليا أن القروض ستتبخر فى دوامات الإدارة الاقتصادية غير الفعالة والمصالح الخاصة والفساد وانعدام المؤسسية.
ولا ينفى هذا أن الأمر لا يمكن فصله عن «السياسة» إذ أن الصندوق الذى تأسس عام 1944، مثله مثل العديد من المؤسسات الليبرالية التى تم بناؤها بعد الحرب العالمية الثانية والتى ترتبط بخدمة المصالح الأمريكية مع ادعاء تمثيل البشرية جمعاء، إذ عادة ما يربح حلفاء أمريكا ببرامج إقراض سخية كتلك التى حصلت عليها اليونان وأيرلندا والبرتغال فى أوائل العقد الأول من القرن الحالى.
وفى تحليل ثالث، يمكن ربط تشدد الصندوق أساسا بـ»تردده» و»تشوشه» إزاء الدور الذى يلعبه، ومخاوفه من فقدان النفوذ أمام الصين، فضلا عن عدم تأكده من المستقبل وتضارب الآراء داخل الصندوق نفسه بشأن الطريق الناجح لإنقاذ المتعثرين.
مـن تونـس إلى باكسـتان.. الغضـب «علنــى»
كثيرا ما واجهت شروط الإصلاح التى يفرضها صندوق النقد الدولى اعتراضات من المفاوضين الحكوميين ضمن نقاط خلافية كثيرا ما كانت تدفن فى الغرف المغلقة.
فى العادة، كان الأمر يجرى فى مسار تفاوضى بالكامل فى كل شيء ووفق أى احتمال، ولدى التوصل إلى اتفاق مبدئى، يحرص المسؤولون الحكوميون فى أى دولة على الترويج لفكرة أجندة الإصلاح “النابعة من الداخل” والتى لا تشمل أى إملاءات.
لكن الأشهر الماضية، شهدت انتقادات غاضبة وعلنية من الدول المأزومة للصندوق وشروطه، بل وتخطى الأمر حدود الغضب إلى مرحلة التشكيك فى جدوى مطالب الصندوق والتحذير من أثرها.
«مرارة» فى تونس
يشترط صندوق النقد على تونس خفض الدعم على السلع الأساسية، خصوصا الوقود، رغم أن خطوة فى هذا الاتجاه كانت قد جلبت كوارث فى الماضى، وربما يكون هذا التعنت هو السبب وراء إعلان الرئيس التونسى قيس سعيد مؤخرا بمرارة رفض إملاءات الصندوق.
وحسب تقرير لموقع “أفريقيا نيوز” شهدت تونس اندلاع أعمال عنف تسببت فى مقتل العشرات فى ديسمبر 1983 عندما قررت السلطات التونسية إلغاء الدعم على الحبوب، مما أدى لصعود أسعار الخبز والمكرونة لمستويات قياسية.
وتوصلت حكومة قيس سعيد إلى اتفاق مبدئى فى منتصف أكتوبر من العام الماضى للحصول على قرض بقيمة 2 مليار دولار من صندوق النقد، لكن الاتفاق لم يحظ بموافقة مجلس إدارة الصندوق.
ويرفض سعيد إلغاء الدعم، رغم إيمانه بأن بعض الناس ممن لا يحتاجون للدعم يستفيدون منه، لكنه يدعو إلى توفير وسائل أخرى لضمان وصول الدعم لمستحقيه.
ومن ناحية أخرى، قرر البنك الدولى تعليق قروض جديدة كان يعتزم تقديمها لتونس فى مارس من العام الجارى، بعد أن طالت الرئيس قيس سعيد اتهامات بالعنصرية فى التعامل مع المهاجرين الأفارقة القادمين من جنوب الصحراء الكبرى.
وقال مسئول فى البنك الدولى إن تعليق قروض البنك تعنى تعرض صندوق النقد الدولى لضغوط إضافية تعرقل تصديقه على خطة لإنقاذ البلاد.
وطالب صندوق النقد أيضا بتمرير تشريع لإعادة هيكلة ما يزيد على 100 شركة مملوكة للدولة تمارس الاحتكار على أجزاء كثيرة من الاقتصاد، كما أنها غارقة فى الديون.
وبحسب تقرير لموقع جيبلتكل موينتور، تكشف النظرة السريعة على خطاب نوايا وإعلان صندوق النقد عن الاتفاق السابق عام 2016 عن أن الإصلاحات التى تمت الموافقة عليها فى ذلك الوقت لا تختلف عن تلك التى تم الإعلان عنها فى أكتوبر من العام الماضى، مما يدل على أن الصندوق يتجاهل عامدا متطلبات الحفاظ على السلم الاجتماعى فى البلاد.
ويطب اتحاد الشغل العام التونسى من الحكومة الإعلان عن البرنامج الذى تقدمت به لصندوق النقد الدولى، حيث تتصدر مسألتى إلغاء الدعم وخصخصة الشركات العامة قائمة أولويات الاتحاد.
وفى يوم 3 ديسمبر الماضى، دق الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبى طبول الحرب مع الحكومة عندما أعلن أن الاتحاد سيرفض أى سياسة تشكل مصدر تهديد لمعيشة التونسيين.
باكستان تقبل «مرغمة»
وفى فبراير الماضى، أعلن رئيس وزراء الباكستانى شهباز شريف، أن بلاده “مضطرة” لقبول “الشروط القاسية” لاتفاق مع صندوق النقد الدولى، وذلك خلال اجتماع حكومى تم نقله تلفزيونيا على الهواء مباشرة.
وباكستان التى عانت لعقود طويلة من الفساد والإهمال، مطالبة بتحرير سعر الصرف ورفع الفائدة وزيادة أسعار الوقود وإلغاء الدعم وزيادة الضرائب.
عقود من البؤس «غير المبرر».. خبراء المؤسسة يعترفون بفشل حلولها
بعد عقود من تسببه فى بؤس غير مبرر لشعوب الفقيرة، أدرك صندوق النقد الدولى أخيرا أن أفضل طريقة لخفض الديون السيادية هى من خلال تعزيز النمو الاقتصادى، وليس الإصرار على تقليص الإنفاق.
وحسب ما نقله موقع “بروجيكت سنديكيت” عن ياتى غوش رئيسة مركز الدراسات الاقتصادية والتخطيط بجامعة جواهر لال نهرو الهندية، كشف أحدث تقرير لآفاق الاقتصاد العالمى والصادر عن صندوق النقد الدولى فى أبريل الماضى، أن شروط الضبط المالى التى يفضلها الصندوق تقوض الجهود المبذولة لخفض نسب الدين إلى الناتج المحلى الإجمالى لأنها تعرقل النمو الاقتصادى.
وبحث التقرير فى نتائج مختلف برامج خفض الديون التى نفذها الصندوق مع 33 دولة من اقتصادات الأسواق الناشئة و21 اقتصادًا متقدمًا بين عامى 1980 و2019.
وتوصل التقرير إلى أن نمو الناتج المحلى الإجمالى بشكل كبير يمثل “قوة مهمة” مسؤولة عما يقرب من ثلث التخفيض الملحوظ للديون خلال تلك الفترة.
واعترف التحليل بأن التوسع المالى أدى إلى تحسين نسب الدين فى العديد من الحالات، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تأثيره الإيجابى على نمو الناتج المحلى الإجمالى.
نتيجة نعرفها منذ قرن!
وحسب غوش، فمن المؤكد أن هذه ليست فكرة جديدة، إذ أكدها جون ماينارد كينز منذ ما يقرب من قرن من الزمان، وكررها الكثيرون منذ ذلك الحين.
كان الأمر معروفًا بالتأكيد للمفاوضين الذين صاغوا اتفاقية ديون لندن لعام 1953، والتى قللت بشكل كبير من عبء الدين العام لألمانيا الغربية، إذ نصت الاتفاقية المبرمة بين ألمانيا و20 من دائنيها الخارجيين على شروط سداد مواتية مرتبطة بالصادرات المستقبلية للبلاد، مما خلق ظروفًا لازدهارها الاقتصادى بعد الحرب.
مخاطرة التقشف
ويشير تقرير الصندوق إلى أن ضبط أوضاع المالية العامة من المرجح أن يقلل الديون فى اقتصاد متنام، وفى ظل ظروف مالية مواتية، ولكن نظرًا لأن مثل هذه الظروف قد لا تكون موجودة دائمًا، ولأن التقشف يميل إلى إعاقة نمو الناتج المحلى الإجمالى، نادرًا ما أدى التقشف إلى نتائج إيجابية فى البلدان المثقلة بالديون.
كما يشير تقرير صندوق النقد الدولى إلى أن الانخفاضات غير المتوقعة فى سعر الصرف يمكن أن تقوض جهود خفض الديون.
ومع ذلك، فإن ما لم يذكره التقرير هو أن هذه التطورات غالبًا ما تكون نتيجة غير مقصودة لبرامج صندوق النقد الدولى نفسه، والتى تميل إلى مطالبة البلدان المثقلة بالديون بالتحول إلى أسعار الصرف التى يحددها السوق، ورفع أسعار الفائدة، وخفض الدعم الحكومى، وبالتالى رفع زيادة تكاليف العمل والإنتاج.
فى المقابل، وجد التقرير أن جهود إعادة هيكلة الديون كانت أكثر نجاحًا عندما ساعدت البلدان على استعادة النمو وتجنب التدهور الاقتصادى.
الصندوق يعترف
على مدى عقود، افترضت برامج صندوق النقد الدولى أن خفض الإنفاق العام هو السبيل الوحيد للتعامل مع أزمة الديون، والآن يبدو أن الصندوق يعترف بأخطائه الماضية.
ولكن من غير الواضح ما إذا كان هذا الترحيب (وإن كان متأخرًا) سيتجاوز قسم الأبحاث فى صندوق النقد الدولى، وكيف يمكن أن يؤثر على أنشطة إقراض الصندوق.
المؤشرات المبكرة ليست واعدة، لقد دعت قيادة صندوق النقد الدولى مرارًا وتكرارًا إلى إعادة هيكلة أسرع وأكثر فاعلية للديون السيادية.
والأسوأ من ذلك، يبدو أن موظفى صندوق النقد الدولى ليسوا على دراية بتقريره الأخير أو اختاروا تجاهله، إذ تتضمن برامج التمويل الأخيرة للصندوق شروطًا مرهقة من المرجح أن يكون لها آثار ضارة للغاية على سكان البلدان النامية واقتصاداتها.
لكن تغيير هذا أضحى ضروريا إذ أن الاستمرار فيه يعنى إحداث ضرر عمدى.
عندما يثبت فشل “حلول” معينة يجب التخلى عنها، وبالتالى فإن اعتراف باحثو صندوق النقد الدولى ليس كافيا.
وعود كريستالينا جورجييفا تتبخر
«شيزوفرينيا الصندوق».. علاجات عقابية ورسوم إضافية على الدول المتعثرة
مع وصولها إلى قمة الهرم فى صندوق النقد الدولى عام 2019، تحدثت تقارير إعلامية عن أجندة “مختلفة” لكريستالينا جورجييفا من شأنها تغيير سلوك الصندوق فى التعامل مع الأزمات.
آنذاك، كانت السيدة البلغارية التى انخرطت بلادها فى خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولى عام 2017، تتحدث كثيرا عن مفهوم “الأمن البشرى” الذى يتوجب على الصندوق ضمانه.
ويعنى الأمن البشرى بحماية الحريات الأساسية وتحرير الإنسان من الخوف والفقر والإهانة، عبر تبنى الاستثمار فى رأس المال البشرى من خلال التعليم وبرامج الرعاية الصحية وأنظمة الحماية الاجتماعية.
وتوقعت مجلة “بوليتيكو” أن تأخذ جورجييفا الصندوق بعيدًا عن برامجه التقليدية بحيث يوفر رعاية اقتصادية وقائية، بدلاً من العلاجات الاقتصادية العقابية.
ولاحقا، أكد صندوق النقد مرار ضرورة إبداء مرونة أكبر ومراعاة الظروف الاقتصادية لكل دولة مأزومة وعدم مطالبة الجميع بخطة إصلاح واحدة، لكن الدلائل أكدت أنه لا يزال يطالب الدول الأكثر فقرا بتطبيق التدابير التقشفية ذاتها مقابل سماحة للاقتصادات المتقدمة بالاحتفاظ بمستويات مديونية مرتفعة بالنسبة إلى إجمالى ناتجها المحلى.
الرسوم الإضافية.. سياسة تمييزية
من ناحية أخرى، يفرض صندوق النقد الدولى رسومًا إضافية على الاقتصادات المتعثرة رغم كونها اقتصادات تكافح.
على سبيل المثال، فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، رفع الصندوق تكاليف قروض تونس ومصر والأردن، من خلال ما يسمى بالرسوم الإضافية، مما وضع البلدان تحت ضغوط مالية متزايدة.
والرسوم الإضافية هى مدفوعات إضافية إلى جانب مدفوعات الفائدة المنتظمة والرسوم الأخرى، والدول مطالبة بدفعها للصندوق إذا كان لديها مستويات عالية من ديون صندوق النقد الدولى.
وتعتمد التكلفة الإضافية على حجم القروض ومدتها ويمكن أن تزيد عن ضعف تكاليف قروض البلدان.
على الصعيد العالمى، تأثرت 14 دولة بالرسوم الإضافية، وكلها فى حالة من اليأس المالى الحاد.
ووفق مجلة فورتشن، فإن أكبر 5 مقترضين من صندوق النقد الدولى (الأرجنتين، والإكوادور، ومصر، وباكستان، وأوكرانيا) كانوا مطالبين بسداد ما مجموعه 2.7 مليار دولار من هذه الرسوم الإضافية خلال عام 2022.
فى هذه الدول، يمكن لمبالغ الرسوم الإضافية إخراج مئات الآلاف من الناس من براثن الفقر، وتوسيع نطاق نظام الحماية الاجتماعية.
مبررات واهية
وفقًا لصندوق النقد الدولى، فإن السبب وراء سياسة الرسوم الإضافية هو زيادة دافع البلدان لسداد قروضها، فضلا عن إحداث “توازن تحوطى” لصندوق النقد الدولى.
ومع ذلك، نظرًا للظروف السياسية غير المواتية التى تتبع قروض الصندوق، مثل التخفيضات الكبيرة فى الإنفاق الاجتماعى، فمن غير المرجح أن توافق أى دولة على مثل هذه المدفوعات سوى لحاجتها الماسة إلى الاقتراض.
علاوة على ذلك، فإن مثل هذا الدخل الإضافى ليس ضروريًا لضمان الأرصدة الاحترازية لصندوق النقد الدولى، لأن أرصدته أكثر من صحية.
وتشكل الرسوم الإضافية حوالى %0.18 من إجمالى موارد صندوق النقد الدولى المتاحة للإقراض، لذلك، لا يؤثر هذا الدخل على قدرة الصندوق على الإقراض.
وحتى لو كان الصندوق فى حاجة إلى مزيد من الأمن المالى، فليس من المنطقى أن يتم تحميل هذه المسؤولية على عاتق أكثر البلدان المنكوبة بالأزمات.
جدير بالذكر أن صندوق النقد الدولى وقع 18 برنامجا مع الدول العربية بين عامى 2010 و2021.
نتائج عكسية
وتأتى الرسوم الإضافية بنتائج عكسية على الدول، وفقا مجلة فورتشن، إذ أنها تطيل من فترة الانكماش الاقتصادى للدولة وربما تزيدها سوءًا، لأنها تُفرض على المقترضين الأقل قدرة على تحمل تكاليفها.
ومع الرسوم الإضافية، يكون معدل الفائدة ضعفين إلى أربعة أضعاف سعر الفائدة العادى لصندوق النقد الدولى والبالغ حوالى %1.
كما تتعارض الرسوم الإضافية مع بنود اتفاقية صندوق النقد الدولى، التى تنص على أن إقراض الصندوق لا يمكن أن يكون “مدمرًا للازدهار الوطنى أو الدولى”.
كذلك، تتعارض الرسوم الإضافية مع القانون الدولى لحقوق الإنسان الذى يقضى بعدم التمييز ضد البلدان على أساس وضعها الاقتصادى.
ومع ذلك، من المتوقع أن تصبح الرسوم الإضافية أكثر انتشارًا فى السنوات القادمة، إذ وفقًا لتوقعات صندوق النقد الدولى نفسه، ستدفع 38 دولة رسومًا إضافية بحلول عام 2024.
تجربة تشيلى.. معجزة نادرة فى أجندة الإصلاح النيوليبرالية
يتأسس تمسك صندوق النقد بالأجندة النيوليبرالية على إشادة بالمعجزة الاقتصادية فى شيلى وردت على لسان الخبير الاقتصادى ميلتون فرايدمان الذى اعتبر عام 1982 أنها حققت هذه المعجزة خلال العقد السابق على هذا التاريخ.
أرجع فرايدمان نهضة شيلى إلى تحولها إلى تطبيق سياسات نيوليبرالية جرت محاكاتها منذ ذلك الحين فى جميع دول العالم.
وتحولت النيوليبرالية إلى صفة يفضل المنتقدون أكثر من المؤسسين استخدامها لوصف أجندة السياسات التى تحولت لتصبح بمثابة الوصفة السحرية لتوليد معجزات اقتصادية مماثلة فى جميع دول العالم.
وتستند هذه الأجندة على ذراعين، يتعلق الأول بزيادة المنافسة المتحققة عبر تحرير الأسواق المحلية، بما فيها الأسواق المالية، عن طريق التخلص من القيود الحكومية أمام المنافسة الأجنبية.
ويتعلق الذراع الثانى بمنح الدولة دورا أصغر عن طريق خصخصة الشركات الحكومية وفرض قيود تحد من قدرة الحكومات على التمويل بالعجز ومراكمة الديون.
بدأت تشيلى فى تطبيق الأجندة النيوليبرالية خلال العقد الذى سبق عام 1982، وأجرت تعديلات فى السياسات جعلتها أكثر شبها بالولايات المتحدة، وأقبلت البلدان الأخرى على تطبيق السياسات النيوليبرالية.
وبحسب تقرير لصندوق النقد صدر عام 2016، ترتب على تطبيق هذه السياسات إنقاذ الملايين من ربقة الفقر، وأدت الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى تعزيز نقل التكنولوجيا إلى الاقتصاديات النامية، وأفضت خصخصة الشركات المملوكة للدولة فى العديد من البلدان إلى إتاحة الخدمات بشكل أكثر كفاءة وتقليص العبء المالى على الحكومات.
ويقر التقرير بإخفاق جوانب فى الأجندة الليبرالية فى تحقيق النتائج المرجوة المتجسدة فى زيادة مستوى النمو واستدامته، وذلك على صعيد تحرير حركة رأس المال عبر حدود أحد الدول وكذلك على صعيد تقليص العجز فى الميزانية ومراكمة الديون.
ويرى موريس اوبستفيلد أن المكاسب المحتملة لتحرير حركة رأس المال عبر الحدود تشمل السماح لأسواق رأس المال الدولية بتخصيص المدخرات العالمية لخدمة الأغراض الإنتاجية عالميا.
وبات كذلك بوسع الاقتصاديات النامية صاحبة رؤوس الأموال المتدنية الاقتراض من أجل تمويل الاستثمارات والتمكن، بالتالى من زيادة معدلات النمو الاقتصادى دون الحاجة لتحقيق زيادة حادة فى مدخراتها الخاصة.
لكن أوبتستفيلد، أشار أيضا إلى المخاطر الأصيلة الناجمة عن الانفتاح على التدفقات المالية الأجنبية، استنادا إلى حتمية التعرض لثنائية المكاسب والمخاطر فى العالم الواقعى.
إذ ساهمت بعض تدفقات رأس المال مثل الاستثمار الأجنبى المباشر، الذى ربما يشمل نقل التكنولوجيا أو رأس المال البشرى، فى تعظيم النمو طويل الأجل، لكن التدفقات الأخرى مثل استثمارات المحافظ وتدفقات الدين المصرفية وخصوصا الساخنة القائمة على المضاربة يبدو أنها لا تسهم بتاتا فى تعزيز النمو أو السماح للدولة بمشاركة المخاطر مع شركائها التجاريين.
يعنى هذا أن النمو والمكاسب الناجمة عن مشاركة المخاطر ربما يعتمدان أيضا على طبيعة المؤسسات والسياسات الداعمة.

